فصل: تفسير الآية رقم (31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 21‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏لولا إذ سمعتموه‏}‏ يعني الحديث الكذب وهو قول أهل الإفك ‏{‏ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم‏}‏ بأخوانهم وأهل دينهم ‏{‏خيراً‏}‏ والمعنى كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظن ولا يسرعوا في التهمة وقول الزور فيمن عرفوا عفته وطهارته وفيه معاتبة للمؤمنين ‏{‏وقالوا هذا إفك مبين‏}‏ يعني كذب بين لا حقيقة له ‏{‏لولا‏}‏ يعني هلا ‏{‏جاؤوا عليه‏}‏ يعني على ما زعموا ‏{‏بأربعة شهداء‏}‏ يعني يشهدون بذلك ‏{‏فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله‏}‏ يعني في حكم الله ‏{‏هم الكاذبون‏}‏ وهذا من باب الزواجر‏.‏ فإن قلت كيف يصيرون عن الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت‏.‏ قلت قيل هذا في حق الذين رموا عائشة خاصة معناه فأولئك هم الكاذبون في غيبي‏.‏ وعلمي وقيل معناه فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب والقاذف إذا لم يأت بالشهود يجب زجره‏.‏ قوله تعالى ‏{‏لولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم‏}‏ معناه لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم به من حديث الإفك والخطاب للقذفة وهذا الفضل هو تأخير العذاب وقبول التوبة ممن تاب ‏{‏إذ تلقونه بألسنتكم‏}‏ أي يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا فيتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض ‏{‏وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم‏}‏ أي من غير أن تعلموا أنه حق ‏{‏وتحسبوه هيناً‏}‏ أي وتظنون أنه سهل لا إثم فيه ‏{‏وهو عند الله عظيم‏}‏ أي في الزور ‏{‏ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك‏}‏ قيل هو للتعجب وقيل هو للتنزيه ‏{‏هذا بهتان عظيم‏}‏ أي كذب عظيم يبهت ويحير منه عظمه‏.‏ روي أن أم أيوب الأنصاري قالت لأبي أيوب الأنصاري‏:‏ ما بلغك ما يقول الناس في عائشة فقال‏:‏ سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله ‏{‏يعظكم الله‏}‏ قال ابن عباس يحرم الله عليكم وقيل ينهاكم الله ‏{‏أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات‏}‏ أي في الأمر والنهي ‏{‏والله عليم‏}‏ أي بأمر عائشة وصفوان ‏{‏حكيم‏}‏ أي حكم ببراءتهما‏.‏ قوله عزّ وجلّ ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة‏}‏ أي يظهر الزنا ويذيع ‏{‏في الذين آمنوا‏}‏ قيل الآية مخصوصة بمن قذف عائشة والمراد بالذين آمنوا جميع المؤمنين ‏{‏لهم عذاب أليم في الدنيا‏}‏ يعني الحد والذم على فعله ‏{‏والآخرة‏}‏ أي وفي الآخرة لهم النار ‏{‏والله يعلم‏}‏ أي كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ وقيل معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه على ذلك وأنتم لا تعلمون ذلك ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ يعني لولا إنعامه عليكم لعاجلكم بالعقوبة قال ابن عباس يريد مسطحاً وحسان بن ثابت وحمنة ‏{‏وأن الله رؤوف رحيم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ يعني آثاره ومسالكه ‏{‏ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر‏}‏ يعني بالقبائح من الأقوال والأفعال وكل ما يكره الله عزّ وجلّ والآية عامة في حق كل أحد لأن كل مكلف ممنوع من ذلك ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً‏}‏ يعني ما طهر ولا صلح والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا أخبر الله تعالى أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد وقيل الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل‏.‏ وهذا قول ابن عباس قال معناه ما قبل توبة أحد منكم أبداً ‏{‏ولكن الله يزكي‏}‏ يعني يظهر ‏{‏من يشاء‏}‏ من الذنب بالرحمة والمغفرة ‏{‏والله سميع‏}‏ يعني لأقوالكم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بما في قولكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتل‏}‏ يعني ولا يحلف من الألية وهي القسم ‏{‏أولوا الفضل منكم والسعة‏}‏ يعني الغنى يعني أبا بكر الصديق ‏{‏أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله‏}‏ يعني مسطحاً وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر الصديق حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله هذه الآية ‏{‏وليعفوا وليصفحوا‏}‏ يعني عن خوض مسطح في أمر عائشة ‏{‏ألا تحبون‏}‏ يخاطب أبا بكر ‏{‏أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم‏}‏ فلما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال بل أنا أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها عنه أبداً‏.‏ وفي الآية أدلة على فضل أبي بكر الصديق لأن الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح وذكره بلفظ الجمع في قوله أولوا الفضل وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم وهذا يدل على علو شأنه ومرتبته منها أنه احتمل الأذى من ذوي القربى ورجع عليه بما كان ينفقه عليه وهذا من أشد الجهاد لأنه جهاد النفس‏.‏ ومنها أنه تعالى قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ وقال في حق أبي بكر‏:‏ ‏{‏وليعفوا وليصفحوا‏}‏ فدل أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه سلم في جميع الأخلاق‏.‏ وفي الآية دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ويكفّر عن يمينه ومنه الحديث الصحيح «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون المحصنات‏}‏ يعني العفائف ‏{‏الغافلات‏}‏ يعني عن الفواحش والغافلة، عن الفاحشة هي التي لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها ‏{‏المؤمنات‏}‏ وصفها بالمؤمنات لعلو شأنها ‏{‏لعنوا‏}‏ يعني عذبوا ‏{‏في الدنيا‏}‏ بالحد ‏{‏والآخرة‏}‏ يعني وفي الآخرة بالنار ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ وهذا في حق عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق، وروي عن حصيف قال قلت لسعيد بن جبير من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة قال ذاك لعائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر المؤمنات ليس في ذلك توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ إلى قوله تابوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة وقيل بل لهم توبة أيضاً للآية ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم‏}‏ هذا قبل أن يختم على أفواههم ‏{‏وأيديهم وأرجلهم‏}‏ يروي أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا وهو قوله ‏{‏بما كانوا يعملون يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏ يعني جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏ يعني الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء وقيل معناه يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا وقال ابن عباس وذلك أن عبدالله بن أبي ابن سلول كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين‏.‏

قوله عزّ وجلّ ‏{‏الخبيثات للخبيثين‏}‏ قال أكثر المفسرين معنى الخبيثات الكلمات والقول للخبيثين من الناس ومثله ‏{‏والخبيثون‏}‏ أي من الناس ‏{‏للخبيثات‏}‏ من القول ‏{‏والطيبات‏}‏ أي من القول ومعنى الآية أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس‏.‏ والطيب من القول لا يليق إلا بالطيب من الناس وعائشة لا يليق بها‏.‏ الخبيث من القول لأنها طيبة فيضاف إليها طيب القول من الثناء والمدح وما يليق بها وقيل معناه لا يتكلم بالخبيث إلى الخبيث من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ولا يتكلم بالطيب من القول إلا الطيب من الرجال والنساء‏.‏ وهذا مدح للذين يرونها بالطاهر والمدح لها وقيل معنى الآية الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء أمثال عبدالله بن أبي المنافق والشاكين في الدين والطيبات من النساء ‏{‏للطيبين والطيبون للطيبات‏}‏ يريد عائشة طيبها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أولئك مبرؤون‏}‏ يعني عائشة وصفوان ذكرهما الله بلفظ الجمع منزهون ‏{‏مما يقولون‏}‏ يعني أصحاب الإفك ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ أي عفو لذنوبهم ‏{‏ورزق كريم‏}‏ يعني الجنة روي أنّ عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرفة حرير وقال هذه‏:‏ زوجتك‏.‏

وروي أنه أتى بصورتها في راحته‏.‏ ومنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف ونزلت براءتها من السماء وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً‏.‏ وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول حدثتني الصديقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا‏}‏ أي تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ويقال تستأنسوا خطأ من الكاتب ونفي هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر والاستئناس في اللغة الاستئذان‏.‏ وقيل الاستئناس طلب الإنس وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنه إني داخل وقيل هو من آنست أي أبصرت وقيل هو أن يتكلم بتسبيحة أو يتنحنح حتى يعرف أهل البيت ‏{‏وتسلموا على أهلها‏}‏ بيان حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد الاستئذان والسلام‏.‏ واختلفوا في أيهما يقدم فقيل يقدم الاستئذان فيقول أدخل سلام عليكم كما في الآية من تقديم الاستئذان قبل السلام‏.‏ وقال الأكثرون يقدم السلام فيقول سلام عليكم أأدخل وتقدير حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكذا هو في مصحف ابن مسعود وروي عن كند بن حنبل قال‏:‏ «دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولم أسلّم ولم أستأذن فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم» ارجع فقل السلام عليكم أأدخل «أخرجه أبو داود والترمذي وعن ربعي بن حراش قال» جاء رجل من بني عامر فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال ألج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له رسول الله صلى الله عليه سلم «أخرجه أبو داود ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد وأبيّ ابن كعب عن أبي موسى قال أبو سعيد‏:‏» كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال‏:‏ استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت قال ما منعك قلت استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» قال والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أبي بن كعب فوالله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك‏.‏

قال الحسن الأول إعلام والثاني مؤآمرة والثالث استئذان بالرجوع عن عبدالله بن بسر قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن» أخرجه أبو داود وقيل إذا وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم‏.‏ وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم يدل عليه ما روي «عن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ استأذن على أمي‏؟‏ قال نعم فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها» أخرجه مالك في المؤطأ مرسلاً وقوله تعالى ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏ أي فعل الاستئذان خير لكم وأولى بكم من التهجم بغير إذن ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ أي هذه الآداب فتعملوا بها‏.‏ قوله عزّ وجلّ ‏{‏فإن لم تجدوا فيها‏}‏ أي البيوت ‏{‏أحداً‏}‏ أي يأذن لكم في دخولها ‏{‏فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم‏}‏ أي في الدخول ‏{‏وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا‏}‏ يعني إذا كان في البيت قوم وكرهوا دخول الداخل عليهم فقالوا ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازماً ‏{‏هو أزكى لكم‏}‏ أي الرجوع هو أطهر وأصلح لكم فإنّ للناس أحوالاً وحاجات يكرهون الدخول عليهم في تلك الأحوال وإذا حضر إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز‏.‏ كان ابن عباس يأتي دون الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم‏.‏ وإذا وقف على الباب فلا ينظر من شقه إذا كان الباب مردوداً ‏(‏ق‏)‏ «عن سهل بن سعد قال» اطلع رجل من جحر في باب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل وفي رواية يحك به رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر «‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم» من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه «وفي رواية النسائي قال» لو أن أمرأً أطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك حرج «وقال مرة أخرى جناح ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ يعني من الدخول بالإذن ولما نزلت آية الاستئذان قالوا كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن فأنزل الله تعالى ‏{‏ليس عليكم جناح‏}‏ يعني إثم ‏{‏أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة‏}‏ يعني بغير استئذان ‏{‏فيها متاع لكم‏}‏ يعني منفعة لكم قيل إن هذه البيوت في الخانات والمنازل المبينة للسابلة ليأووا إليها ويؤوا أمتعتهم فيها فيجوز دخولها بغير استئذان ولمنفعة النزول بها واتقاء الحر والبرد وإيواء الأمتعة بها‏.‏

وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو منفعتها فليس فيها استئذان‏.‏ وقيل هي جميع البيوت التي لا ساكن فيها لأن الاستئذان إنما جعل لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك جاز له الدخول بغير استئذان ‏{‏والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏ قوله تعالى ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏ يعني عما لا يحل النظر إليه قيل معناه يغضوا أبصارهم‏.‏ وقيل من هنا للتعبيض لأنه لا يجب الغض عما يحل إليه النظر وإنما أمروا أن يغضوا عما لا يحل النظر إليه ‏(‏م‏)‏ عن جرير قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة قال‏:‏ «اصرف بصرك» عن بريدة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي ‏(‏م‏)‏ عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لاينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وقوله تعالى ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏ يعني عما لا يحل‏.‏ قال أبو العالية كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا في هذا الموضع فإن أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه‏.‏ فإن قلت كيف أدخل من على غض البصر دون حفظ الفرج‏.‏ قلت فيه دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وثديهن وأعضادن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات في البيع والأجنبية يجوز النظر إلى وجهها وكفيها للحاجة إلى ذلك وأما أمر الفروج فمضيق وكفاك أن أبيح النظر إلاّ ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه‏.‏ فإن قلت كيف قدم غض البصر على حفظ الفرج‏.‏ قلت لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد ولا يكاد أحد يقدر على الاحتراس منه ‏{‏ذلك أزكى لهم‏}‏ يعني غض البصر وحفظ الفرج ‏{‏إنّ الله خبير بما يصنعون‏}‏ يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏}‏ يعني عما لا يحل لهن‏.‏ روي عن أم سلمى قالت‏:‏ كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «احتجبا منه فقلنا‏:‏ يا رسول الله أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» أخرجه الترمذي وأبو داود‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولا يبدين‏}‏ يعني لا يظهرن ‏{‏زينتهن‏}‏ يعني لغير المحرم وأراد بالزينة الخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها والمراد من الزينة النظر إلى مواضعها من البدن ‏{‏إلا ما ظهر منها‏}‏ يعني من الزينة قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي الوجه والكفان‏.‏ وقال ابن مسعود هي الثياب‏.‏ وقال ابن عباس هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليه للضرورة مثل تحمل الشهادة ونحوه من الضرورات إذا لم يخف فتنة وشهوة فإن خاف شيئاً من ذلك غض البصر وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة وسائر بدنها عورة ‏{‏وليضربن بخمرهن‏}‏ يعني ليلقين بمقانعهن ‏{‏على جيوبهن‏}‏ يعني موضع الجيب وهو النحر والصدر يعني ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وأقراطهن وصدورهن ‏(‏خ‏)‏ عن عائشة قالت‏:‏ «يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله» وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها «المرط كساء من صوف أو خز أو كتان وقيل هو الإزار وقيل هو الدرع ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ يعني الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين ‏{‏إلا لبعولتهن‏}‏ قال ابن عباس لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن أو آبائهن ‏{‏أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخونهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن‏}‏ فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنية ولا ينظرون إلى مابين السرة والركبة‏.‏ ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته غير أنه يكره له النظر إلى فرجها ‏{‏أو نسائهن‏}‏ يعني المؤمنات من أهل دينهن أراد به أن يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة ما بين السرة والركبة ولا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتجرد من ثيابها عند الذمية أو الكافرة لأن الله تعالى قال أو نسائهن والذمية أو الكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين فكانت أبعد من الرجل الأجنبي كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات‏.‏

وقيل يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ قيل هو عبد المرأة فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً وأن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم‏.‏ وهو ظاهر القرآن يروى ذلك عن عائشة وأم سلمة‏:‏ وروى أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «أتى إلى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال‏:‏ إنه ليس عليكم بأس إنما هو أبوك وغلامك» وقيل‏:‏ هو كالأجنبي معها وهو قول سعيد بن المسيب‏.‏ قال والمراد من الآية الإماء دون العبيد ‏{‏أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال‏}‏ قرئ غير بنصب الراء قال هو بمعنى الاستثناء ومعناه يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فانهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة وقرئ غير بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب الحاجة والمراد بالتابعين غير أولي الأربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء وقال ابن عباس هو الأحمق العنين وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب والخصي وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنت ‏(‏م‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «قالت كان يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال‏:‏ إذا أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل عليكن هذا فاحجبوه» زاد أبو داود في رواية «وأخرجوه إلى البيداء يدخل كل جمعة فيستطعم» قوله أقبلت بأربع أي أن لها في بطنها أربع عكن فهي تقبل إذا أقبلت بها وأراد بالثمان أطراف العكن الأربع من الجانبين وذلك صفة لها بالسنون ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ أي لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها وقيل‏:‏ لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر وقيل لم يطيقوا أمر النساء وقيل لم يبلغوا حد الشهوة وقيل الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ قيل كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها فنهين عن ذلك وقيل إن الرجل تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن وقد علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم به ما عليهن من الحلي غيره ‏{‏وتوبوا إلى الله جميعاً‏}‏ أي من التقصير الواقع في أمره ونهيه وراجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة قيل إن أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد فلا ينفك عن تقصير يقع منه فلذلك وصى المؤمنين بالتوبة والاستغفار ووعد بالفلاح إذا تابوا واستغفروا فذلك قوله تعالى ‏{‏أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن الأغر أغر مزينة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

«توبوا إلى ربكم فوالله إني لأتوب إلى ربي تبارك وتعالى مائة مرة في اليوم» عن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول‏:‏ «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة» أخرجه عبد الرحمن بن حميد الكشي ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عله وسلم‏:‏ «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ جمع الأيم يطلق على الذكر والأنثى وهو من لا زوج له من رجالكم ونسائكم ‏{‏والصالحين من عبادكم‏}‏ أي من عبيدكم ‏{‏وإمائكم‏}‏ بيان حكم الآية أمر ندب واستحباب لإجماع السلف عليه فيستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبته أن يتزوج وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم ‏(‏ق‏)‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الباءة النكاح ويكنى به عن الجماع أيضاً والوجاء بكسر الواو رض الأنثيين وهو نوع من الخصاء شبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» أخرجه أبو داود والنسائي ‏(‏م‏)‏ عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة أفضل له من النكاح عند الشافعي وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل‏.‏ قال الشافعي‏:‏ قد ذكر الله عبداً أكرمه فقال وسيداً حصوراً وهو الذي لا يأتي النساء وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح وفي الآية دليل على أن تزويج الأيامى إلى الأولياء لأن الله خاطبهم به كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات‏.‏ وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم روي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة‏.‏ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وجوز أصحاب الرأي للمرأة تزويج نفسها وقال مالك إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها وإن كانت شريفة فلا والدليل على أن الولي شرط في النكاح ما روي عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا نكاح إلا بولي» أخرجه أبو داود والترمذي ولهما عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثاً فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن تشاحوا فالسلطان ولي من لا ولي له» وقوله تعالى ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏ قيل الغنى هنا القناعة وقيل‏:‏ هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة وقال عمر بن الخطاب‏.‏ عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح والله تعالى يقول إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال بعضهم إن الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏ وقال ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته‏}‏ ‏{‏والله واسع‏}‏ يعني أنه ذو الإفضال والجود ‏{‏عليم‏}‏ أي بما يصلح خلقه من الرزق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليستعفف الذي لا يجدون نكاحاً‏}‏ يعني ليطلب العقة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من الصدق والنفقة ‏{‏حتى يغنيهم الله من فضله‏}‏ يعني يوسع عليهم من رزقه ‏{‏والذين يبتغون الكتاب‏}‏ يعني يطلبون المكاتبة ‏{‏مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها وقتل يوم حنين في الحرب، بيان حكم الآية وكيفية المكاتبة وذلك أن يقول الرجل لمملوكه‏:‏ كاتبتك على كذا من المال ويسمى مالاً معلوماً تؤدي ذلك في نجمين أو في نجوم معلومة في كل نجم كذا فإذا أديت ذلك فأنت حر ويقبل العبد ذلك، فإذا أدى العبد ذلك المال عتق ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة وإذا عتق بأداء المال فما فضل في يده من المال فهو له ويتبعه أولاده الذي حصلوا في الكتابة في العتق وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق وما في يده من المال فهو لسيده لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» أخرجه أبو داود وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ أم إيجاب يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك على قيمته أو على أكثر من قيمته وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه وكان كثير المال فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه فدعاه عمر فقال له‏:‏ كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا فكاتبوهم ‏{‏إن علمتم فيهم خيراً‏}‏ فكاتبه وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل فيحصل المقصود‏.‏ وجوز أبو حنيفة الكتابة إلى نجم وحالة واحدة واختلفوا في معنى قوله ‏{‏إن علمتم فيهم خيراً‏}‏ فقال أبن عمر قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقيل مالاً، روي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له‏:‏ كاتبني قال ألك مال قال لا قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه قيل لو أراد به المال لقال أن علمتم لهم خيراً وقيل صدقاً وأمانة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمنع من المكاتبة إذا كان هكذا وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله» أخرجه الترمذي والنسائي وقيل معنى الخير أن يكون العبد عاقلاً بالغاً فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق وقوله تعالى ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏ قيل هو خطاب للموالي فيجب على السيد أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة‏.‏ وبه قال الشافعي ثم اختلفوا في قدر ما يحط فقيل يحط الربع وهو قول علي ورواه بعضهم مرفوعاً‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يحط الثالث وقال الآخرون‏:‏ ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وبه قال الشافعي قال نافع‏:‏ كاتب عبدالله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم أخرجه مالك في الموطأ‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبة لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ويضع عنه من آخر كتابته ما أحب وقال بعضهم هو أمر استحباب والوجوب أظهر وقيل أراد بقوله ‏{‏وآتوهم من مال الله‏}‏ أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات وهو قوله وفي الرقاب أراد به المكاتب وهو قول الحسن وزيد بن أسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو حث لجميع الناس على مؤنتهم واختلف العلماء فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال عمر بن عبدالعزيز والزهري وقتادة وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقال قوم‏:‏ إن ترك وفاء ما بقي عليه من مال الكتابة كان حراً وإن فضل له مال كان لأولاده الأحرار‏.‏ وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء وقد وجد وتتبعه أولاده وأكسابه كما في الكتابة الصحيحة لأن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولا تكروهوا فتياتكم‏}‏ أي إماءكم ‏{‏على البغاء‏}‏ أي الزنا ‏{‏إن أردن تحصناً‏}‏ الآية ‏(‏م‏)‏ عن جابر قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئاً قال فأنزل الله ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً‏}‏ وفي رواية أخرى أن جارية لعبدالله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏}‏ إلى قوله ‏{‏غفور رحيم‏}‏ وقال المفسرون‏:‏ نزلت في عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان يقال لهما مسيكة ومعاذة وكان يكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة‏:‏ إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه فأنزل الله هذه الآية وروي أن إحدى الجاريتين جاءت ببرد، وجاءت الآخرى بدينار فقال لهما ارجعا فازنيا فقالتا‏:‏ والله لا نفعل قد جاء الإسلام، وحرم الزنا فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف العلماء في معنى قوله إن أردن تحصناً على أقوال أحدها‏:‏ أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه الثاني‏:‏ إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأمّا إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعهاً الثالث‏:‏ أن إن بمعنى أي إذا أردن وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصناً، كقوله

‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي إذا كنتم القول الرابع‏:‏ أن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً تقديره وأنكحوا الأيامى منكم إن أردتم تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ‏{‏لتبتغوا‏}‏ أي لتطلبوا ‏{‏عرض الحياة الدنيا‏}‏ أي من أموال الدنيا يريد كسبهن، وبين أولادهن ‏{‏ومن يكرههن‏}‏ يعني على الزنا ‏{‏فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏ يعني للمكروهات والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن والله لهن والله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ أي من الحلال والحرام ‏{‏ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم‏}‏ أي شبهاً من حالكم بحالهم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من كان قبلهم من المكذبين ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ أي المؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر‏.‏ قوله عزّ وجلّ ‏{‏الله نور السموات والأرض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه الله هادي السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون وقيل معناه الله منور السموات والأرض، نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء وقيل‏:‏ معناه مزين السموات والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال‏:‏ زين الأرض بالنبات والأشجار، وقيل‏:‏ معناه إن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر‏:‏

إذا سار عبدالله عن مرو ليلة *** فقد سار عنها نورها وجمالها

‏{‏مثل نوره‏}‏ أي مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدي به وقال ابن عباس مثل نوره الذي أعطى المؤمن، وقيل الكناية عائدة إلى المؤمن أي مثل نور قلب المؤمن وقيل أراد بالنور القرآن وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هو الطاعة سمي طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفاً وتفصيلاً ‏{‏كمشكاة‏}‏ هي الكوة التي لا منفذ لها قيل‏:‏ هي بلغة الحبشة ‏{‏فيها مصباح‏}‏ أي سراج وأصله من الضوء ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏ يعني القنديل وإنما ذأر الزجاجة لأن النور، وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج ثم وصف الزجاجة، فقال تعالى ‏{‏الزجاجة كأنها كوكب دري‏}‏ من درأ الكوكب إذا اندفع منقضاً، فيتضاعف نوره في تلك الحال، وفي ذلك الوقت وقيل هو من درأ النجم إذا طلع، وارتفع وقيل دري أي شديد الإنارة نسب إلى الدر، في صفائه وحسنه وإن كان الكوكب أضوأ من الدر لكنه يفضل الكوكب بصفائه كما يفضل الدر على سائر اللؤلؤ وقيل الكوكب الدري أحد الكواكب الخمسة السيارة، التي هي زحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد، قيل‏:‏ شبهه بالكواكب ولم يشبهه بالشمس والقمر، لأنهما يلحقهما الكسوف بخلاف الكواكب ‏{‏يوقد‏}‏ أي اتقد المصباح ‏{‏من شجرة مباركة زيتونة‏}‏ أي من زيت شجرة مباركة كثيرة البركة، وفيها منافع كثيرة لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو إدام وهو أصفى الأدهان وأضوأها، وقيل‏:‏ إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقيل‏:‏ أراد به زيتون الشام لأنها هي الأرض المباركة، وهي شجرة لا يسقط ورقها، عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شجرة مباركة»

أخرجه الترمذي‏.‏ وقوله ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ أي ليست شرقيه وحدها فلا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تكون الشمس بالغداة، إذا طلعت بل مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها، وعند غروبها فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا معنى قول ابن عباس وقيل معناه أنها ليست في مقنأة لا تصيبها الشمس، ولا في مضحاة لا يصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل وقيل معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد وقيل معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض، لا شرقي ولا غربي وقيل ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ‏{‏يكاد زيتها يضيء‏}‏ أي من صفائه ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏ أي قبل أن تمسه النار ‏{‏نور على نور‏}‏ أي نور المصباح على نور الزجاجة‏.‏

فصل في بيان التمثيل المذكور في الآية

اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل، فقيل‏:‏ المراد به الهدى ومعناه أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، والرقة والبياض فإذا كان كذلك كان كاملاً في صفائه، وصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى وقيل وقع هذا التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار‏:‏ أخبرني عن قوله تعالى ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ قال كعب‏:‏ هذا مثل ضربه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم به أنه نبيّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار وروي عن ابن عمر في هذه الآية قال المشكاة‏:‏ جوف محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي جعله الله فيه لا شرقية ولا غربية، لا يهودي ولا نصراني توقد من شجرة مباركة إبراهيم نور على نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين سمى الله محمداً مصباحاً، كما سماه سراجاً منيراً والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام لأن أكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية، يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً لأن اليهود تصلّي إلى الغرب، والنصارى تصلّي إلى الشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم، وقيل وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن قال أبيّ بن كعب، هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن توقد من شجرة مباركة هي شجرة الإخلاص لله وجده فمثله مثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة نضرة، لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن، قد احترس أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق يكاد زيتها يضيء أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه، نور على نور قال أبي‏:‏ فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور، وعمله نور ومدخله نور، ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة وقال ابن عباس‏:‏ هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونور على نور، وقال الكلبي‏:‏ نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله‏.‏

وقيل نور الإيمان ونور القرآن وقيل هذا مثل القرآن فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح فكذلك يهتدى بالقرآن والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة المعرفة في قلبه، يكاد زيتها يضيء أي نور المعرفة يشرق في قلب المؤمن، ولو لم يمسسه النار وقيل تكاد حجة القرآن تتضح، وإن لم يقرأ نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نوراً على نور‏.‏ قوله تعالى ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لدين الإسلام وهو نور البصيرة ‏{‏ويضرب الله الأمثال للناس‏}‏ أي يبين الله الأشياء للناس تقريباً إلى الأفهام، وتسهيلاً لسبيل الإدراك ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ أي ذلك المصباح يوقد في بيوت والمراد بالبيوت جميع المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض وقيل‏:‏ المراد بالبيوت أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء أسس على التقوى وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ‏{‏أذن الله أن ترفع‏}‏ أي تبنى وقيل‏:‏ تعظم فلا يذكر فيها الخنى من القول وتطهر عن الأنجاس والأقذار ‏{‏ويذكر فيها اسمه‏}‏ قال ابن عباس يتلى فيها كتابه ‏{‏ويسبح له فيها‏}‏ أي يصلي له فيها ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ بالغداة والعشي قال أهل التفسير‏:‏ أراد به الصلاة المفروضة فالتي تؤدّى بالغداة صلاة الفجر والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت كله وقيل‏:‏ أراد به الصبح والعصر‏.‏ عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «من صلى صلاة البردين دخل الجنة أراد بالبردين صلاة الصبح، وصلاة العصر» وقال ابن عباس‏:‏ التسبيح بالغدو صلاة الضحى والآصال صلاة العصر عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه سلم «من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يعنيه إلا ذاك كان أجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» أخرجه أبو داود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏رجال‏}‏ قيل خص الرجال بالذكر في هذه المساجد، لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا جماعة ‏{‏لا تلهيهم‏}‏ أي لا تشغلهم ‏{‏تجارة‏}‏ وقيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل الإنسان به عن الصلوات، والطاعات وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً، لأنه ذكر البيع بعده وقيل التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يده ‏{‏ولا بيع‏}‏ أي ولا يشغلهم بيع ‏{‏عن ذكر الله‏}‏ أي حضور المساجد لإقامة الصلوات ‏{‏وإقام الصلاة‏}‏ يعني إقامة الصلاة في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وروي عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المساجد فقال ابن عمر فيهم نزلت هذه الآية ‏{‏رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة‏}‏ ‏{‏وإيتاء الزكاة‏}‏ يعني المفروضة قال ابن عباس إذا حضر، وقت أداء الزكاة لا يحبسونها ‏{‏يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار‏}‏ يعني أن هؤلاء الرجال، وإن بالغوا في ذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته‏.‏ قيل‏:‏ إن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار‏.‏ وقيل‏:‏ تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وترفع عن الأبصار الأغطية‏.‏ وقيل‏:‏ تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء فتخشى الهلاك وتطمع في النجاة، وتتقلب الأبصار من هول ذلك اليوم، من أي ناحية يؤخذ بهم أمن ذات اليمين، أم من ذات الشمال ومن أي يؤتون كتبهم أمن اليمين أم من قبل الشمال‏؟‏ وقيل‏:‏ يتقلب القلب في الجوف، فيرفع إلى الحنجرة فلا ينزل ولا يخرج ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا‏}‏ يعني أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا والمراد بالأحسن الحسنات كلها وهي الطاعات فرضها ونفلها، وذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم وقيل‏:‏ إنه سبحانه وتعالى يجزيهم جزاء أحسن من أعالمهم، على الواحد من عشرة إلى سبعمائة ضعف ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى يجزيهم بأحسن أعمالهم ولا يقتصر على ذلك بل يزيدهم من فضله ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ فيه تنبيه على كمال قدرته وكمال جوده وسعة إحسانه وفضله‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏ لما ضرب مثلاً لحال المؤمن وأنه في الدنيا والآخرة في نور، وأنه فائز بالنعيم المقيم، أتبعه بضرب مثل لأعمال الكفار وشبهه بالسراب وهو شبه ماء يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري يظنه من رآه ماء، فإذا قرب منه لم ير شيئاً‏.‏

والقيعة القاع وهو المنبسط من الأرض وفيه يكون السراب ‏{‏يحسبه‏}‏ أي يتوهمه ‏{‏الظمآن‏}‏ أي العطشان ‏{‏ماء حتى إذا جاء‏}‏ أي جاء ما قدر أنه ماء وقيل‏:‏ جاء إلى موضع السراب ‏{‏لم يجده شيئاً‏}‏ أي لم يجده على ما قدره وظنه ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، يعتقد أنه له ثواباً عند الله وليس كذلك فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته، وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه به فإذا جاءه لم يجده شيئاً فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله، نافعه فإذا احتاج إلى عمله لم يجده أغنى عنه شيئاً ولا نفعه ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ أي وجد الله بالمرصاد وقيل‏:‏ قدم على الله ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏ أي جزاء عمله ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ معناه أنه عالم بجميع المعلومات فلا تشغله محاسبة واحد عن واحد‏.‏ ثم ضرب للكفار مثلاً آخر فقال تعالى ‏{‏أو كظلمات‏}‏ أعلم الله سبحانه وتعالى أن أعمال الكفار إن كانت حسنة، فهي كسراب بقيعة وإن كانت قبيحة فهي كظلمات، وقيل‏:‏ معناه إن مثل أعمالهم في فسادها، وجهالتهم فيها كظلمات ‏{‏في بحر لجي‏}‏ أي عميق كثير الماء ولجة البحر معظمه ‏{‏يغشاه‏}‏ أي يعلوه ‏{‏موج من فوقه موج‏}‏ أي متراكم ‏{‏من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض‏}‏ معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غموره الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ‏{‏إذا أخرج يده لم يكد يراها‏}‏ أي لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة وقيل‏:‏ معناه لم يرها إلا بعد الجهد وقيل‏:‏ لما كانت اليد من أقرب شيء يراه الإنسان قال‏:‏ لم يكد يراها، ووجه التشبيه أن الله ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات‏:‏ ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب، وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل وقيل‏:‏ شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه‏.‏ قال أبيّ بن كعب‏:‏ الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏ قال ابن عباس من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له وقيل من لم يهده الله فلا هادي له قيل نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر وعاند، والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات‏}‏ أي باسطات أجنحتهن في الهواء قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏ قيل‏:‏ الصلاة لبني آدم والتسبيح لسائر الخلق وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وقيل‏:‏ معناه إن كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه وقيل معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه ‏{‏والله عليم بما يفعلون ولله ملك السموات والأرض‏}‏ أي إن جميع الموجودات ملكه وفي تصرفه وعنه نشأت ومنه بدأت فهو واجد الوجود وقيل معناه أن خزائن المطر والرزق بيده ولا يملكها أحد سواه ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ أي وإلى الله مرجع العباد بعد الموت‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ألم تر أن الله يزجي‏}‏ أي يسوق ‏{‏سحاباً‏}‏ بأمره إلى حيث يشاء من أرضه وبلاده ‏{‏ثم يؤلف بينه‏}‏ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ‏{‏ثم يجعله ركاماً‏}‏ أي متراكماً بعضه فوق بعض ‏{‏فترى الودق‏}‏ أي المطر ‏{‏يخرج من خلاله‏}‏ أي من وسطه وهو مخارج القطر ‏{‏وينزل من السماء من جبال فيها من برد‏}‏ قيل معناه وينزل من جبال من السماء وتلك الجبال من برد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال في الكثرة من برد‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة‏.‏ قلت‏:‏ من الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد ‏{‏فيصيب به‏}‏ أي البرد ‏{‏من يشاء‏}‏ فيهلكه وأمواله ‏{‏ويصرفه عمن يشاء‏}‏ أي فلا يضره ‏{‏يكاد سنا برقه‏}‏ أي ضوء برق السحاب ‏{‏يذهب بالأبصار‏}‏ أي من شدة ضوئه وبريقه ‏{‏يقلب الله الليل والنهار‏}‏ أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما فيأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمن أقلب الليل والنهار» معنى هذا الحديث‏:‏ أن العرب كانوا يقولون عند النوازل والشدائد أصابنا الدهر ويذمونه في أشعارهم فقيل لهم‏:‏ لا تسبوا الدهر فإن فاعل ذلك هو الله عز وجل والدهر مصرف تقع فيه التأثيرات كما تقع بكم، وقوله تعالى ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الذي ذكر من هذه الأشياء ‏{‏لعبرة لأولي الأبصار‏}‏ أي دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏والله خلق كل دابة من ماء‏}‏ أي من نطفة وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة والجن، لأنا لا نشاهدهم وقيل‏:‏ إن أصل جميع الخلق من الماء وذلك أن الله خلق ماء فجعل بعضه ريحاً ونوراً فخلق منه الملائكة وجعل بعضه ناراً فخلق منه الجن، وجعل بعضه طيناً فخلق منه آدم ‏{‏فمنهم من يمشي على بطنه‏}‏ أي كالحيات والحيتان والديدان ونحو ذلك ‏{‏ومنهم من يمشي على رجلين‏}‏ يعني مثل بني آدم والطير ‏{‏ومنهم من يمشي على أربع‏}‏ يعني كالبهائم والسباع‏.‏ فإن قلت كيف قال‏:‏ خلق كل دابة من ماء مع أن كثيراً من الحيوانات يتولد من غير نطفة‏.‏ قلت ذلك المخلق من غير نطفة، لا بد أن يتكون من شيء، وذلك الشيء أصله من الماء فكان من الماء‏.‏ فإن قلت‏:‏ فمنهم من يمشي ضمير العقلاء، فلم يستعمل في غير العقلاء‏.‏ قلت ذكر الله تعالى ما لا يعقل مع من يعقل لأن جعل الشريف أصلاً، والخسيس تبعاً أولى‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم قدم ما يمشي على بطنه على غيره من المخلوقات‏.‏ قلت قدم الأعجب، والأعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة المشي، وهي الأرجل والقوائم ثم ذكر ما يمشي على رجلين ثم ما يمشي على أربع‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم اقتصر على ذكر الأربع وفي الحيوانات ما يمشي على أكثر من أربع، كالعناكب والعقارب والرتيلا وما له أربع وأربعون رجلاً ونحو ذلك‏.‏ قلت هذا القسم كالنادر فكان ملحقاً بالأغلب وقيل‏:‏ إن هذه الحيوانات اعتمادها على أربع في المشي والباقي تبع لها ‏{‏يخلق الله ما يشاء‏}‏ أي مما لا يعقل ولا يعلم ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ أي هو القادر على الكل العالم بالكل المطلع على الكل، يخلق ما يشاء كما يشاء لا يمنعه مانع ولا دافع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 55‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏لقد أنزلنا آيات مبينات‏}‏ يعني القرآن هو المبين للهدى والأحكام والحلال والحرام ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ يعني إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ويقولون‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏آمنا بالله وبالرسول وأطعنا‏}‏ أي يقولونه‏:‏ بألسنتهم من غير اعتقاد ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏ أي يعرض على طاعة الله ورسوله ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي من بعد قولهم آمناً، ويدعو إلى غير حكم الله قال الله تعالى ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ نزلت هذه الآية في بشر المنافق، كان بينه وبين يهودي خصومة في أرض، فقال اليهودي‏:‏ نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف فأنزل الله هذه الآية ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم‏}‏ أي الرسول يحكم بحكم الله بينهم ‏{‏إذا فريق منهم معرضون‏}‏ يعني عن الحكم وقيل عن الإجابة ‏{‏وإن لم يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏}‏ أي مطيعين منقادين لحكمه أي إذا كان الحكم لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم أنه، كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ أي كفر ونفاق ‏{‏أم ارتابوا‏}‏ أي شكوا وهذا استفهام ذم وتوبيخ والمعنى هم كذلك ‏{‏أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله‏}‏ أي بظلم ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏ أي لأنفسهم بإعراضهم عن الحق‏.‏ قوله عزّ وجلّ ‏{‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله‏}‏ أي إلى كتاب الله ‏{‏ورسوله ليحكم بينهم‏}‏ هذا تعليم أدب الشرع على أي من هذه صفته ‏{‏هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله‏}‏ قال ابن عباس فيما ساءه وسره ‏{‏ويخش الله‏}‏ أي على ما عمل من الذنوب ‏{‏ويتقه‏}‏ أي فيما بعد ‏{‏فأولئك هم الفائزون‏}‏ يعني الناجون‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ قيل‏:‏ جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئاً ‏{‏لئن أمرتهم ليخرجن‏}‏ وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا، ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقيل لما نزل بيان كراهتهم لحكم الله ورسوله قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا، وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى بحكمك فقال الله تعالى ‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏لا تقسموا‏}‏ يعني لا تحلفوا، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال ‏{‏طاعة معروفة‏}‏ يعني هذه طاعة القول باللسان دون الاعتقاد بالقلب، هي معروفة يعني أمر عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون وقيل‏:‏ معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل ‏{‏إن الله خبير بما تعلمون‏}‏ يعني من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل ‏{‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ يعني بقلوبكم وصدق نياتكم ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يعني أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ‏{‏فإنما عليه‏}‏ أي على الرسول ‏{‏ما حمل‏}‏ أي ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏ أي ما كلفتم من الإجابة والطاعة ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏ أي تصيبوا الحق والرشد في طاعته ‏{‏وما على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ أي التبليغ الواضح البين‏.‏

قوله عزّ وجلّ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض‏}‏ قيل مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم‏:‏ سلاحه فقال رجل منهم أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية، ومعنى ليستخلفنهم والله ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فجعلهم ملوكها وساستها وسكانها ‏{‏كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏ أي كما استخلف داوُد وسليمان وغيرهما من الأنبياء، وكما استخلف بني إسرائيل وأهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ‏{‏وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى‏}‏ أي اختاره ‏{‏لهم‏}‏ قال ابن عباس يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ‏{‏وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني‏}‏ آمنين ‏{‏لا يشركون بي شيئاً‏}‏ فأنجز الله وعده وأظهر دينه ونصر أولياءه وأبدلهم بعد الخوف أمناً وبسطاً في الأرض ‏(‏خ‏)‏ عن عدي بن حاتم قال‏:‏ بينا أنا عندي النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال‏:‏ «يا عدي هل رأيت الحيرة قلت‏:‏ لم أرها ولقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترحل عن الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي، فإين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم القيامة، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن ألم أبعث إليك رسولاً، فيبلغك فيقول بلى يا رب، ألم أعطك مالاً وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم» قال عدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة» قال عدي‏:‏ فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلى الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ يخرج الرجل ملء كفه ذهباً إلخ‏.‏

وفي الآية دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين بعده، لأن في أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى غيره من الملوك، وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين عن سفينة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً» ثم قال‏:‏ أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة وعلي ستاً قال علي‏:‏ قلت لحماد القائل لسعيد أمسك سفينة قال نعم «أخرجه أبو داود والترمذي بنحو هذا اللفظ‏.‏ قلت‏:‏ كذا ورد هذا الحديث بهذا التفصيل، وفيه إجمال وتفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة كما ذكر في الحديث، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر ولهذا جاء في بعض روايات الحديث على كذا، ولم يبين تعيين مدته فعلى هذا التفصيل تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر، وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن كانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم، وقوله تعالى ‏{‏ومن كفر بعد ذلك‏}‏ أراد به كفران النعمة ولم يرد الكفران بالله ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏ أي العاصون قال أهل التفسير‏:‏ أو من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان، فلما قتلوه غير الله الله مابهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتلون بعد أن كانوا إخواناً‏.‏ عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال‏:‏» لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال عثمان‏:‏ ما جاء بك قال‏:‏ جئت في نصرك قال‏:‏ اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجاً خير لي منك داخلاً، فخرج عبدالله إلى الناس فقال‏:‏ أيّها الناس إن لله سيفاً مغموداً وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلن الله سيفه المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قالوا‏:‏ اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان «أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي» فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً، ولا خليفة إلا قتل به خسمة وثلاثون ألفاً «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون‏}‏ أي افعلوا هذه الأشياء على رجاء الرحمة ‏{‏لا تحسبن الذي كفروا معجزين‏}‏ أي فائتين عنا ‏{‏في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير‏}‏ قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏ قال ابن عباس وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له‏:‏ مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك فأنزل الله هذه الآية وقيل‏:‏ نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنا خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏ واللام لام الأمر وفيه قولان أحدهما‏:‏ أنه على الندب والاستحباب والثاني‏:‏ أنه على الوجوب وهو الأولى الذين ملكت أيمانكم يعني العبيد والإماء ‏{‏والذين لم يبلغوا الحلم منكم‏}‏ يعني الأحرار وليس المراد منهم الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء ولكنهم لم يبلغوا الحلم وهو سن التمييز والعقل وغيرهما، واتفق العلماء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة، ولم يحتلم فقال أبو حنيفة لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثمان عشرة سنة ويستكملها والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمسة عشرة سنة يصير مكلفاً، وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات ‏{‏من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة‏}‏ أي وقت المقيل ‏{‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏ وإنما خص هذه الثلاثة الأوقات، لأنها ساعات الخلوات ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات ‏{‏ثلاث عورات لكم‏}‏ سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدوا عورته ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم‏}‏ يعني العبيد والخدم والصبيان ‏{‏جناح‏}‏ أي حرج في الدخول عليكم بغير استئذان ‏{‏بعدهن‏}‏ أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طوافون عليكم ‏{‏أي العبيد والخدم يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالكم بغير أذن ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ أي يطوف بعضكم على بعض ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم‏}‏ اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل‏:‏ إنها منسوخة حكي ذلك عن سعيد بن المسيب، روى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا يا ابن العباس كيف ترى في هذه ا لآية التي أمرنا بها، ولا يعمل بها أحد قول الله عزّ وجلّ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم‏}‏ الآية فقال ابن عباس‏:‏ إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجاب فربما دخل الخدم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير «فلم أرد أحداً يعمل بذلك بعد‏.‏

أخرجه أبو داود في رواية عنه نحوه وزاد فرأيي أن ذلك أغنى عن الاستئذان في تلك العورات، وذهب قوم إلى أنها غير منسوخه روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال‏:‏ «سألت الشعبي عن هذه الآية ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم أمنسوخة هي‏؟‏ قال‏:‏ لا والله قلت إن الناس لا يعملون بها قال الله تعالى المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية أن ناساً يقولون‏:‏ نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قيل ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن هذه الآية وقوله ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ والناس يقولون أعظمكم بيتاً ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم‏}‏ أي الاحتلام يريد الأحرار الذين بلغوا ‏{‏فليستأذنوا‏}‏ أي يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم ‏{‏كما استأذن الذين من قبلكم‏}‏ أي الأحرار الكبار ‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته‏}‏ أي دلالته وقيل أحكامه ‏{‏والله عليم‏}‏ أي بأمور خلقه ‏{‏حكيم‏}‏ بما دبر وشرع قال سعيد بن المسيب‏:‏ يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك، وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره قوله ‏{‏والقواعد من النساء‏}‏ يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر فلا يلدن ولا يحضن ‏{‏اللاتي لا يرجون نكاحاً‏}‏ أي لا يردن الأزواج لكبرهن، وقيل‏:‏ هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن فأما من كانت فيها بقية جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية ‏{‏فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن‏}‏ أي عند الرجال والمعنى بعض يثابهن وهو الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار فأما الخمار فلا يجوز وضعه ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ أي من غير أن يردن وضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن‏.‏ والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما يجب عليها أن تستره ‏{‏وأن يستعففن‏}‏ أي فلا يلقين الجلباب ولا الرداء ‏{‏خير لهن والله سميع عليم‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ اختلف العلماء في هذه الآية فقال ابن عباس‏:‏ لما أنزل الله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، الزمنى والعمى والعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله عز وجل عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفى من الطعام حقه فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في أي ليس في الأعمى، والمعنى ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج وقيل كان العميان والعرجان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان الأعمى يقول ربما آكل أكثر من ذلك ويقول الأعرج والأعمى ربما أجلس مكان اثنين فنزلت هذه الآية، وقيل‏:‏ نزلت ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سماهم الله في باقي الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن عنده شيء، ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه أو بعض من سمى الله تعالى فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته فأنزل الله هذه الآية وقيل‏:‏ كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وأصحابها غيب فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام عند قوله ‏{‏ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏ كلام مستأنف قيل لما نزلت

‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ قالوا‏:‏ لا يحل لأحد منا أن يأكل من أحد فأنزل الله تعالى ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏ ‏{‏أن تأكلوا من بيوتكم‏}‏ أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، قيل أراد من أموال عيالكم وبيوت أزواجكم لأن بيت المرأة كبيت الزوج، وقيل بيوت أولادكم ونسب بيوت الأولاد إلى الآباء لما جاء في الحديث «أنت ومالك لأبيك» ‏{‏أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته ماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر، وقيل يعني بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منزل عبده، والمفاتح الخزائن ويجوز أن يكون المفتاح الذي يفتح به، وإذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يأكل الشيء اليسير، وقيل‏:‏ ما ملكتم مفتاحه أي ماخزنتموه عندكم ما ملكتموه ‏{‏أو صديقكم‏}‏ الصديق هو الذي صدقك في المودة؛ قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال‏:‏ تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا ‏{‏ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً‏}‏ نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفاً يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، ربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل وقال ابن عباس‏:‏ كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول‏:‏ والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير فنزلت هذه الآية وقيل‏:‏ نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا أنزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعاً، أي مجتمعين أو أشتاتاً أي متفرقين ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ أي ليسلم بعضكم على بعض هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله، ومن في بيته قال قتادة‏:‏ إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتاً ليس في أحد فقل السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته، حدثنا أن الملائكة ترد عليه وقال ابن عباس إذا لم يكن في البيت أحد، فيلقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته وعن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ‏{‏تحية من عند الله مباركة طيبة‏}‏ قال ابن عباس حسنة جميلة وقيل ذكر البركة والطيب ها هنا لما فيه من الثواب والأجر ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏ أي عن الله أمره ونهيه وآدابه‏.‏